أنبياء وشعراء

   تلقيت بطاقة الدعوة التي تعلن قرار الجالية العربية في أستراليا، بكافة هيئاتها وأنديتها ومنظماتها الأدبية والاجتماعية، عن اقامة مهرجان أدبي كبير في مدينة سيدني الاسترالية تكريماً لكم بمناسبة اليوبيل الفضي الذي تحييه لكم لمرور 25 سنة على صدور أول ديوان شعري من نظمكم خرج للنور، وكان القبسة الأولى التي أضاءت حياتكم بالعطاء الأدبي المتميّز.
   ومن حقّ العربية أن تفاخر بولادة شاعر جديد في هذا المنقلب البعيد من العالم، يجسد الحرف العربي، ويعلي الكلمة العربية، ويملأ الأجواء صداحاً وتغريداً.
   ولو لم يكن الانبياء أنبياء.. لما كانوا إلا شعراء.
   مقولة أدبية مشهورة وردت في كتب الادب منذ زمن بعيد.
   فالشاعر هو ضمير الامة، وقلبها الخافق، وصوتها المدوي، ومصباحها المنير.
   وعندما يولد شاعر جديد نحس بأن عبقرياً جاء الى هذه الدنيا، يحمل بين يديه مشعلاً، وترتسم على شفتيه آيات، ويشع من عينيه نور.
   وتشترك الطبيعة بهذه الولادة، فيزهر الورد، وتورق الاشجار، وتحتفل السماء بالنغم الساحر، وتنتشر الرسالة، ويضوع شذاها في كل دروب الحياة.
   وأكبر حافز للوثوب الى الأعالي، وأعمق صيحة للتضحية والفداء، هي الكلمة المجنحة، الرافلة بوشاح العزة والكبرياء، المستنفرة كتائب الثائرين الى حلبات الصراع من أجل الحرية والسيادة.
كم أمة خسرت حرباً فأنهضها
مع الرصاص نشيد يرفع المحنا
   وأنت، يا شاعر الغربة الطويلة، امتشقت حسام الدفاع عن الفكر والأدب، وارتديت عباءة العطاء الأمثل لخير الانسانية والمجتمع، وأصبحت ذلك الصوت الشجي في بلاد الأعاجم المعبر عن جمال الكلمة العربية، وطويت اثنين وأربعين صفحة من كتاب العمر، منها خمساً وعشرين في العطاء الأدبي المتميز، ولم تقتصر سيرتك على لون واحد من ألوان الكلمة، بل كان عطاؤك جميلاً في الشعر والنثر والمسرحية.
   هذه المؤلفات القيّمة التي كتبتها بحبر دمك، وزيّنتها بحبّات قلبك، وذرفات دموعك، وتزرعها في جبين الأفق أوزاناً حلوة، وصوراً مشعة، وقوافٍ حانية.
   انك لم تقدم على انتقاء رفيقة الحياة، لتكمل بها الشخصية الذاتية، على الرغم من انقضاء هذه السنوات الطويلة والعنيفة في عمر الانسان، بل اخترت أن تبقى في رحاب الروح والفكر، تجزي الأدب والانسانية والحضارة، بما تزخر به هذه الروح من صوفية ومثالية وانارات.
   ولا أدري اذا كانت هذه الصوفية، أو هذه الهبة الالهية، تستمران في تحنيطك في قوالب الأدب والفن، أم أنك سوف تعود لمحاسبة الذات، فتثري، بعد طول المطاف، زوايا البيت، وتقول "أكبادنا تمشي على الأرض"، كما أثريت دنيا الأدب والفكر بالابداع، لأنك خلدت اسمك في سدرة المنتهى، وصنعت موسوعة بليغة مشرقة يفيد منها ابناء الاجيال الصاعدة، وأخشى عليك أن تنسى نفسك بين هطل المداد وصرير القلم، ولعلي أبرق اليك في القريب العاجل: هنيئاً ضلعك الثاني.
   كم كنت أتمنى أن أكون شاهداً في هذا التكريم لأنشد مع الحاضرين قصائد التهنئة باليوبيل الفضي، ودعاء العمر الطويل، مكللاً بتاج الصحة والصفاء، حتى تبلغ صدر اليوبيل الذهبي.
   مع بريد هذه الرسالة ثلات حلقات من "أبطال منسيون" ونسخة من "الثقافة" وفيها خبر تكريمك.
السويداء في 20/11/1993
**